سورة الأعراف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى رغب الأمم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام بالتخويف أولاً ثم بالترغيب ثانياً على ما بيناه، والترغيب إنما كان لأجل التنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق، فبدأ في شرح تلك النعم بقوله: {وَلَقَدْ مكناكم فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} [الأعراف: 10] ثم أتبعه بذكر أنه خلق أبانا آدم وجعله مسجوداً للملائكة، والإنعام على الأب يجري مجرى الإنعام على الابن فهذا هو وجه النظم في هذه الآيات، ونظيره أنه تعالى قال في أول سورة البقرة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] فمنع تعالى من المعصية بقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} وعلل ذلك المنع بكثرة نعمه على الخلق، وهو أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم، ثم خلق لهم ما في الأرض جميعاً من المنافع، ثم أتبع تلك المنفعة بأن جعل آدم خليفة في الأرض مسجوداً للملائكة، والمقصود من الكل تقرير أن مع هذه النعم العظيمة لا يليق بهم التمرد والجحود فكذا في هذه السورة ذكر تعالى عين هذا المعنى بغير هذا الترتيب فهذا بيان وجه النظم على أحسن الوجوه:
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى ذكر قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في القرآن في سبعة مواضع: أولها: في سورة البقرة.
وثانيها: في هذه السورة.
وثالثها: في سورة الحجر.
ورابعها: في سورة بني إسرائيل.
وخامسها: في سورة الكهف.
وسادسها: في سورة طه.
وسابعها: في سورة ص.
إذا عرفت هذا فنقول: في هذه الآية سؤال، وهو أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} يفيد أن المخاطب بهذا الخطاب نحن.
ثم قال بعده: {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} وكلمة {ثُمَّ} تفيد التراخي، فظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك، فلهذا السبب اختلف الناس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال: الأول: أن قوله: {وَلَقَدْ خلقناكم} أي خلقنا أباكم آدم وصورناكم، أي صورنا آدم {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} وهو قول الحسن ويوسف النخوي وهو المختار، وذلك لأن أمر الملائكة بالسجود لآدم تأخر عن خلق آدم وتصويره، ولم يتأخر عن خلقنا وتصويرنا أقصى ما في الباب أن يقال: كيف يحسن جعل خلقنا وتصويرنا كناية عن خلق آدم وتصويره؟ فنقول: إن آدم عليه السلام أصل البشر، فوجب أن تحسن هذه الكناية نظيره قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} [البقرة: 63] أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام، ويقال: قتلت بنو أسد فلاناً، وإنما قتله أحدهم.
قال عليه السلام: «ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل»، وإنما قتله أحدهم، وقال تعالى مخاطباً لليهود في زمان محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أنجيناكم مّنْ ءالِ} [الأعراف: 141] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72] والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم، فكذا هاهنا.
الثاني: أن يكون المراد من قوله: {خلقناكم} آدم {ثُمَّ صورناكم} أي صورنا ذرية آدم عليه السلام في ظهره، ثم بعد ذلك قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، وهذا قول مجاهد. فذكر أنه تعالى خلق آدم أولاً، ثم أخرج أولاده من ظهره في صورة الذر، ثم بعد ذلك أمر الملائكة بالسجود لآدم.
الوجه الثالث: خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فهذا العطف يفيد ترتيب خبر على خبر، ولا يفيد ترتيب المخبر على المخبر.
والوجه الرابع: أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير، كما قررناه في هذا الكتاب، وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين فقوله: {خلقناكم} إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم. وقوله: {صورناكم} إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة على ما جاء في الخبر أنه تعالى قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته، والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ، ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه.
المسألة الثالثة: ذكرنا في سورة البقرة أن هذه السجدة فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد منها مجرد التعظيم لانفس السجدة.
وثانيها: أن المراد هو السجدة، إلا أن المسجود له هو الله تعالى، فآدم كان كالقبلة.
وثالثها: أن المسجود له هو آدم، وأيضاً ذكرنا أن الناس اختلفوا في أن الملائكة الذين أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم هل هم ملائكة السموات والعرش أو المراد ملائكة الأرض، ففيه خلاف، وهذه المباحث قد سبق ذكرها في سورة البقرة.
المسألة الرابعة: ظاهر الآية يدل على أنه تعالى استثنى إبليس من الملائكة، فوجب كونه منهم وقد استقصينا أيضاً هذه المسألة في سورة البقرة، وكان الحسن يقول: إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور، والملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ولا يعصون، وليس كذلك إبليس، فقد عصى واستكبر، والملائكة ليسوا من الجن، وإبليس من الجن، والملائكة رسل الله، وإبليس ليس كذلك، وإبليس أول خليقة الجن وأبوهم، كما أن آدم صلى الله عليه وسلم أول خليقة الإنس وأبوهم.
قال الحسن: ولما كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه الله تعالى، وكان اسم إبليس شيئاً آخر، فلما عصى الله تعالى سماه بذلك وكان مؤمناً عابداً في السماء حتى عصى ربه فأهبط إلى الأرض.


{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود فإن ذلك الأمر قد تناول إبليس، وظاهر هذا يدل على أن إبليس كان من الملائكة، إلا أن الدلائل التي ذكرناها تدل على أن الأمر ليس كذلك وأما الاستثناء فقد أجبنا عنه في سورة البقرة.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى، طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود، وليس الأمر كذلك. فإن المقصود طلب ما منعه من السجود، ولهذا الإشكال حصل في الآية قولان:
القول الأول: وهو المشهور أن كلمة لا صلة زائدة، والتقدير: ما منعك أن تسجد؟ا وله نظائر في القرآن كقوله: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} [القيامة: 1] معناه: أقسم. وقوله: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] أي يرجعون. وقوله: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] أي ليعلم أهل الكتاب.
وهذا قول الكسائي، والفراء، والزجاج، والأكثرين.
والقول الثاني: أن كلمة {لا} هاهنا مفيدة وليست لغواً وهذا هو الصحيح، لأن الحكم بأن كلمة من كتاب الله لغو لا فائدة فيها مشكل صعب، وعلى هذا القول ففي تأويل الآية وجهان:
الأول: أن يكون التقدير: أي شيء منعك عن ترك السجود؟ا ويكون هذا الاستفهام على سبيل الإنكار ومعناه: أنه ما منعك عن ترك السجود؟ا كقول القائل لمن ضربه ظلماً: ما الذي منعك من ضربي، أدينك، أم عقلك، أم حياؤك؟ا والمعنى: أنه لم يوجد أحد هذه الأمور، وما امتنعت من ضربي.
الثاني: قال القاضي: ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه قال: ما دعاك إلى أن لا تسجد؟ا لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها.
المسألة الثالثة: احتج العلماء بهذه الآية على أن صيغة الأمر تفيد الوجوب، فقالوا: إنه تعالى ذم إبليس بهذه الآية على ترك ما أمر به ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به موجباً للذم.
فإن قالوا: هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب، فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب. فلم قلتم إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك؟
قلنا: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر، لأن قوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} مذكور في معرض التعليل، والمذكور في قوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} هو الأمر من حيث أنه أمر لا كونه أمراً مخصوصاً في صورة مخصوصة، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون ترك الأمر من حيث إنه أمر موجبٌ للذم، وذلك يفيد أن كل أمر فإنه يقتضي الوجوب وهو المطلوب.
المسألة الرابعة: احتج من زعم أن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قال: إنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال، ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب هذا الذم بترك السجود في الحال.
المسألة الخامسة: اعلم أن قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} طلب الداعي الذي دعاه إلى ترك السجود، فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي، وهو أنه قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ومعناه: أن إبليس قال إنما لم أسجد لآدم، لأني خير منه، ومن كان خيراً من غيره فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدون! ثم بين المقدمة الأولى وهو قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} بأن قال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل، فوجب كون إبليس خيراً من آدم.
أما بيان أن النار أفضل من الطين، فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات، وأيضاً فالنار قوية التأثير والفعل، والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال. والفعل أشرف من الانفعال، وأيضاً فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة، وأما الأرضية والبرد واليبس فهما مناسبان الموت. والحياة أشرف من الموت، وأيضاً فنضج الثمار متعلق بالحرارة، وأيضاً فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلاً في هذين الوقتين، وأما وقت الشيخوخة، فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية، لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان، فأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر، لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع.
وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فلأنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحاً في العقول، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس. فنقول: هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاثة. أولها: أن النار أفضل من التراب، فهذا قد تكلمنا فيه في سورة البقرة.
وأما المقدمة الثانية: وهي أن من كانت مادته أفضل فصورته أفضل، فهذا هو محل النزاع والبحث، لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة. ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، والنور من الظلمة والظلمة من النور، وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر. وأيضاً التكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل، فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه، وأيضاً فالفضل إنما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة. ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر.
المسألة السادسة: احتج من قال: أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس بأنه لو كان تخصيص عموم النص بالقياس جائزاً لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد والتوبيخ العظيم، ولما حصل ذلك دل على أن تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز، وبيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة: {اسجدوا لأَدَمَ} [الأعراف: 11] خطاب عام يتناول جميع الملائكة. ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس. وهو أنه مخلوق من النار والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف، فيلزم كون إبليس أشرف من آدم عليه السلام، ومن كان أشرف من غيره، فإنه لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون الأدنى. والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك، فثبت أن إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئاً إلا أنه خصص عموم قوله تعالى للملائكة: {اسجدوا لأَدَمَ} بهذا القياس، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً لوجب أن لا يستحق إبليس الذم على هذا العمل: وحيث استحق الذم الشديد عليه، علمنا أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وأيضاً ففي الآية دلالة على صحة هذه المسألة من وجه آخر، وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: {اهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأَعراف: 13] فوصف تعالى إبليس بكونه متكبراً بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله، ولما دلت هذه الآية على أن تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله، ودلت هذه الآية على أن التكبر على الله يوجب العقاب الشديد والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين، ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز.
وهذا هو المراد مما نقله الواحدي في البسيط، عن ابن عباس أنه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس، فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس. هذا جملة الألفاظ التي نقلها الواحدي في البسيط عن ابن عباس.
فإن قيل: القياس الذي يبطل النص بالكلية باطل.
أما القياس الذي يخصص النص في بعض الصور فلم قلتم أنه باطل؟ وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض، لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض أولى وأقوى، لأن النور أشرف من النار، وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر أحد من الملائكة بالسجود لآدم، فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل.
وأما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام، لم قلتم: إنه باطل؟ فهذا سؤال حسن أوردته على هذه الطريقة وما رأيت أحداً ذكر هذا السؤال ويمكن أن يجاب عنه، فيقال: إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أمر من لا يرضى أن يلجأ إلى خدمة الأدنى الأدون، أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح، لأنه لا اعتراض عليه في أنه يسقط حق نفسه، أما الملائكة فقد رضوا بذلك، فلا بأس به، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود، فهذا قياس مناسب، وأنه يوجب تخصيص النص ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً، لما استوجب الذم العظيم، فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم في حقه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس غير جائز. والله أعلم.
المسألة السابعة: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} لا شك أن قائل هذا القول هو الله لأن قوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} لا يليق إلا بالله سبحانه.
وأما قوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} فلا شك أن قائل هذا القول هو إبليس.


{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}
وأما قوله: {قَالَ فاهبط مِنْهَا} فلا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى، ومثل هذه المناظرة بين الله سبحانه وبين إبليس مذكور في سورة {ص} على سبيل الاستقصاء.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم السلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس، وقد عظم الله تشريف موسى بأن كلمه حيث قال: {وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وقال: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] فإن كانت هذه المكالمة تفيد الشرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس؟ وإن لم توجب الشرف العظيم، فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف الكامل لموسى عليه السلام؟
والجواب: أن بعض العلماء قال: إنه تعالى قال لإبليس على لسان من يؤدي إليه من الملائكة ما منعك من السجود؟ ولم يسلم أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة.
قالوا: لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله تعالى إلا بواسطة، ومنهم من قال: إنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة، ولكن على وجه الإهانة بدليل أنه تعالى قال له: {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} وتكلم مع موسى ومع سائر الأنبياء عليهم السلام على سبيل الإكرام ألا ترى أنه تعالى قال لموسى: {وَأَنَا اخترتك} [طه: 13] وقال له {واصطنعتك لِنَفْسِى} [طه: 41] وهذا نهاية الإكرام.


المسألة الثامنة: قوله تعالى: {فاهبط مِنْهَا} قال ابن عباس: يريد من الجنة، وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم.
وقال بعض المعتزلة: إنه إنما أمر بالهبوط من السماء، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في سورة البقرة. {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي في السماء.
قال ابن عباس: يريد أن أهل السموات ملائكة متواضعون خاشعون فاخرج إنك من الصاغرين، والصغار الذلة.
قال الزجاج: إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله تعالى بالذلة والصغار تنبيهاً على صحة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله» وقال بعضهم: لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8